عانت الحضارة الأوروبية أشد المعاناة وأكثرها قسوة من سطوة الكنيسة وبطشها، ردحاً من الزمان، امتد لقرون من الجهل والتخلف بسبب سيطرة رجال الدين وأرباب الكنيسة على مناحي الحياة كافة. كانت الكنيسة ورجالات الدين المنتمون لأفكارها، تبطش بكل من يجرؤ على مجرد التفكير بعيدا عن الدين. كان مصير العلماء والأدباء والمفكرين والكتاب خلال تلك الحقبة السوداء من حياة الغرب، الشنق والسحل والسلخ والقتل ببشاعة إذا هم فكروا بعيدا عما يفكر به رجال الدين.
كل تلك الجرائم بحق الإنسانية كانت تتم باسم الدين المسيحي، فكانت للكنيسة السلطة والقوة والنفوذ، لكي تحرق المفكرين أحياء، وكان وقود الحريق كتبهم ومؤلفاتهم وعصارة أفكارهم. فكان لرجال الدين "السلطة الممنوحة لهم من الكنيسة" لإصدار أحكام بحرق المفكرين والأدباء والعلماء هم وكتبهم إذا قالوا إن الأرض كروية مثلا!
ووسط هذا الإرهاب الفكري والجسدي المرعب، كانت الناس لا تجرؤ على استخدام أدمغتها للتفكير في أي أمر إنساني بعيدا عن الكنيسة، بل كانوا على قناعة تامة بآراء الكنيسة وأفكارها وتعليماتها، تماما مثلما كانوا على قناعة بخطأ وجرم العلماء والمفكرين. فلم يكن أحد يخرج عن طوع الكنيسة، فيزعم مثلا أن الأرض بيضاوية الشكل أو أنها تدور حول نفسها وحول الشمس!
هل كان أحد في أوروبا في تلك الأحقاب، يجرؤ على تصديق أحد من العلماء والكتاب والمفكرين والباحثين وأصحاب الرأي، وتكذيب رجال الدين والكنيسة؟.. كان ذلك ضربا من الخبل والجنون، وكان الناس مقتنعين بمزاعم الكنيسة التي كانت تكفر كل صاحب رأي أو فكر أو معرفة، بأكاذيب رجال الدين المسيحيين الذين كانوا ينشرون خزعبلاتهم وخرافاتهم باسم الرب والكتاب المقدس، فكانوا يشوهون مبادئ الدين المسيحي المتسامح، والذي لم يقر في يوم من الأيام مبدأ حرق الكتب والمفكرين وأصحاب الرأي أحياء بسبب آرائهم وأفكارهم!
وبعد عدة قرون من التخلف ومن سطوة الكنيسة وبطش رجال الدين وتحكمهم في مصائر المجتمعات الغربية، تحرر العقل الأوروبي، ومعه تحرر الفكر وتكسرت القيود، وتحطمت الجدران الحديدية التي أقامتها الكنيسة, وفتحت أبواب الحرية وآفاقها، ومعها انطلق الفكر بعيدا عن قيود الكهنة ورجال الدين.
وكان أول ما فعله الإنسان الأوروبي هو الفصل بين الدين والدولة، والفصل بين الدين والسياسة, والفصل بين الدين والقوانين الوضعية. تحرر العقل الغربي من سطوة الكنيسة وبطشها، وانطلقت أوروبا إلى آفاق من العلم والمعرفة، وحمل الإنسان الأوروبي معه مشعل الحضارة والعلوم والمعرفة إلى العوالم الجديدة... قارتي أميركا بشمالها وجنوبها، وأستراليا وأقاصي الأرض وأدناها.
تلك السطوة التي عانت منها أوروبا، يعاني منها اليوم العالم الإسلامي، حيث سطوة البعض من رجال الدين المتزمتين، الذين خلقوا فكرا جهنميا متطرفا أدى إلى جنوح فئة ممن ينتمون لأمة الإسلام إلى الإرهاب. هذا البعض، وهم كثيرون مع الأسف الشديد، يشبهون في تصرفاتهم رجال الكنيسة خلال أبشع عصور الظلام في أوروبا، فهم الذين يستغلون الإسلام اليوم. يكفرون باسمه كل من يخالفهم الرأي، ويرتكبون باسمه حماقاتهم التي لا تنتهي عند حد، ويوزعون صكوك الغفران ومفاتيح الجنة على المنتحرين والقتلة ويحللون لأنفسهم ما يشاؤون، ويحرمون على الآخرين ما يشاؤون.
التحرر من سطوة المتزمتين والمتطرفين من رجال الدين، هو أول الطريق نحو تحرير العقل وبالتالي نحو التحضر.